سلطة سياسية فرضت عليها طبيعة النظام اللبناني عدم الاكتراث بالأصوات الاعتراضية. تدرك السلطة ان تلك الطبيعة تحميها وتتكفل بصد السهام الموجهة اليها. تعرف أيضاً ان التهديد الحقيقي يكمن في صندوق الاقتراع لا غير، لأنّ سقف الاعتراض في الشارع مضبوط لا يتجاوز الخط الاحمر، فالبديل هو الفوضى التي يخشاها اللبنانيون الآن في عز الأزمات الإقليمية.
الخطاب الجماهيري سهل، والتحريض حاليًا على السلطة لا يلزمه الكثير من الجهد. يكفي أن تتحدث جملة واحدة عن ازمة الكهرباء، يكفي أيضاً ان تشير مرة واحدة الى أكوام النفايات. في كل منزل سخط، وفي كل عائلة معترض بالحد الأدنى على تجاهل السلطة للمطالب. لو قدمت الحكومة حلا سريعًا لملف النفايات او تحدثت بشفافية مطلقة عن الكهرباء، لو وافق المقاطعون على عقد جلسة تشريعية واحدة، لو اطل النواب من على منبر المجلس لمحاسبة او مساءلة الحكومة، لو عبروا عن هموم الناس مباشرة على الهواء، لو ادّعى ممثل الشعب انه يتكلم بلسان الناس، كان حينها شعر المواطن انه ليس متروكاً وحيدًا تُرهِقُه الأزمات.
فماذا ستفعل السلطة ان ازدادت النقمة الشعبية؟ هل سيبقى التعطيل قائماً في المؤسسات التشريعية والتنفيذية؟ هل سيبقى الوزراء ملوكاً لا تهز عروشهم احتجاجات المواطنين؟ هل سيبقى ملف النفايات يخضع اولاً لحسابات الربح عند زعيم طائفي او رجل اعمال سياسي؟ هل ستبقى الكهرباء قضية القرنين؟ من يكشف دهاليزها؟ اين ذهبت الاموال المخصصة لها؟ لماذا تم رفض استجرار الطاقة من ايران بأسعار اقل؟ ولماذا لم تُترجم الوعود بالحل النهائي في المولدات التركية؟ لماذا لا يُحاسب الوزراء المتعاقبون على وزارة الموارد المائية والكهربائية - الطاقة والمياه منذ سنوات حتى الآن؟ لماذا لا يتم الكشف عن ممتلكاتهم واموالهم؟ من اين لبعضهم تلك الثروات؟ ألم تجر معاقبة اكثر من وزير سابقاً كانوا على رأس وزاراتهم يوماً ما؟ لماذا لا تكرر التجربة؟ وكيف تُقنع المواطنين ان الدولة قائمة والمحاسبة واردة؟ كيف تطفئ نار الاحتجاجات؟
الأخطر: الى متى يبقى اللبنانيون من دون رئيس للجمهورية؟ لماذا لا يُقر قانون انتخابات عادل على اساس مبدأ النسبية لتمثيل الجميع؟ لماذا تتأخر الانتخابات؟ هي الحل. عندها فلتعبّر الناس عن خياراتها وتُحدد طبيعة النظام السياسي وسُبل الاصلاح.
الأسئلة تتزاحم، ومن بينها ما يخص المحتجين: الا تعتبرون ان الحراك العشوائي من دون اهداف وطنية محددة هو طريق للفوضى والمجهول؟ الا تعتبرون ان الاحزاب التي تهاجمونها تفوقكم اعداداً بمئات المرات؟ لكل زعيم او حزب شارعه. الخطأ أنكم لا تقدرون ذلك. لا تكفي شعاراتكم عن الفساد، ولا حملاتكم وتحشيدكم. الواقع الشعبي اكبر من مشاريعكم. مجرد تظاهرة وحيدة لتيار سياسي او حزب يفوق كل تحركاتكم رغم التبني الاعلامي لكم من دون حدود. يجب ان تُحاكوا هذا الواقع.
في التاسع والعشرين من الشهر الماضي كانت قمة التحرك في وسط بيروت. كان يُفترض ان توضع خطة لتوسيع المشاركة. لكن رغم كل الظروف المناسبة للاعتراض لم يستفد المنظمون من ذلك: ما هي الخطة؟ ما هي حدود المطالب؟ هل يُعقل ان يجري رفض الحوار في مجلس النواب؟ في الشكل وبغض النظر عن مضمون النقاش واهمية التحاور، هذا يعني اولا أنكم تضعون أنفسكم في مواجهة كل المشاركين بالحوار من دون استثناء. لكل مشارك حزبه او طائفته او تمثيله الشعبي. الم يثبت ذلك الشارع؟ لبنان بلد معقّد التركيبة والطبيعة، ما يعني ان حسابات "الثورة" فيه مختلفة عما يجري في كل بلاد العالم، الا اذا جرى إسقاط التركيبة الطائفية. هنا مكمن الدواء.
ألا تعتقدون ان وضع قانون انتخابي نسبي هو مدخل الاصلاح؟ الا تعتقدون ان فرض انتخاب رئيس للجمهورية هو بداية اعادة الامور الى نصابها؟ هل تريدون اكل العنب ام قتل الناطور؟ اذا كان اكل العنب فالطريق يبدأ بفرض الحلول السياسية تدريجياً من قانون انتخابي وإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية، وصولا الى انشاء الدولة المدنية، واذا كان قتل الناطور فالفوضى قادمة لا محالة.
هل فكرتم بإعادة العمل بالدستور اللبناني؟ السلطة تتجاهل بنود الدستور وتعطي الأولوية "للمعتقلات المذهبية". فكوا هذا القيد. والّا انتم عاجزون تتوهمون التغيير. حينها ستكونون كما السلطة أغبياء او متآمرين ترمون البلد في الفوضى الإقليمية. هنا أيضاً الشعب هو الضحية مرتين: الإهمال السلطوي وتهور منظمي الاحتجاجات.